اسمك*
الخدمة*
الدولة*
المدينة*
عنوان بريدك الإلكتروني*
رقم هاتفك*
المبلغ $*
بقلم: ياسمين يوسف
1 مايو، 2020
تتعالى في الغرب أصواتٌ منكرة تطالب بسيادة الدولة على الأطفال وتمنح لنفسها حق فصل الطفل عن الأسرة لأسباب ليست بالضرورة قهرية. وخلف هذه الأصوات المنكرة، تقف جهود خفية ومُعلنة لتفكيك الأسرة بشكلها الفطري ولجعل الحرية الشخصية هي الوصي والمحرّك للأفراد فيما لا يتعارض مع مصلحة الدولة. كما تتعالى أصوات المطالبين بالحرية المطلقة تحارب فكرة الزواج والارتباط بشخصٍ واحد بعينه والوفاء له ومشاركة الحياة معه. فهم يريدون حياة يتنقلون فيها بين أشخاصٍ عدة ولا يلتزمون تجاههم بأي شيئ ولا يتشاركون أي شيئٍ بالضرورة. وبدأت تظهر صورًا غريبة كبديل للزواج كفكرة “أصدقاء بمزايا إضافية”. وهي فكرة غربية بحتة انتشرت عن طريق فيلم سينيمائي وتفاجئت عند حديثي مع بعض الأصدقاء في الدول العربية أن بعض الشباب بدأوا في تطبيقها. وحتى عندما يعقد هؤلاء الزواج بشكلٍ رسمي ليخرج من إطار الزنا، يعيش كلٌ منهما في بيتٍ منفصل تجمعهم لقاءات دورية ولا يقبل تدخل الطرف الآخر في حياته!
ولأن تلك الأفكار تسللت إلى حياتنا وبدت كالسوس ينخر في أعمدة أبنيتنا، أود أن أناقشها من منظور “لا ديني” ليس مراعاةً لمن باتوا يتحسسون من كل مع يتعلّق بالخالق والإله الرب. ولكن لتصبح المناقشة مجرّدة ومنطقية وفكرية يمكن طرح نقاطها في أي وسط وأي نقاش مهما اختلفت قناعات وثقافات أطرافه. وأسعد كثيرًا عندما أستطيع أن أقدّم طرحًا غير ديني ينتهي في النهاية دومًا بإقرار كم أن مقاصد الشريعة والقانون الألهي… بديهية!
مسرح تصارع الأفكار
عودة بدايةً لموضوع الطفل. تلاعبت هذه الأفكار في رأسي طويلاً ما بين اقتناع بضرورة تدخل الدولة لإنقاذ الأطفال من آباء أو أمهات عدوانيين وما بين استنكار فصل الطفل عن أهله بسبب اهمال يمكن توعية الآباء والأمهات تجاهه. ولكن الفكرة أصبحت أكثر تعقيدًا في عقلي عندما تزامنت لفترة كبيرة الآن مع دعوات ناشطين وحقوقين عن الحرية الجندرية التي تعامل الإنسان على أنه كائن يعيش لغرائزه الجسدية ولا يهم كيف ولا مع من وبالطبع يحطمون في سبيل تلك الحريات الشكلَ الفطري للأسرة (أب، وأم، وأبناء). وكنتيجة أيضًا، يصبح من المقبول تدخل الدولة وفصل الأبناء عن أولياء الأمر إذا اعترضوا على رؤية الطفل لهويته الجندرية أو اعترضوا على رغبته في تحويل نوعه.
وبما أن الأمر يبدأ بشيئ ثم تكبر كرة الثلج وتتحول لشيئٍ آخر، فلحماية فكرة الحرية الجندرية والجنسية ولاغلاق الأبواب أمام منتقديها، أصبح من المقبول ومما يتم الترويج له، فكرة عدم أهمية الزواج التقليدي ولا الارتباط بشخص واحد ولا الانجاب. فقد قام ناسجوا هذه المصيدة المحكمة بتقديم نظرة بديلة للحياة الفطرية، تريح كل من يود أن يعيش حياته كما يريد بلا قيود ولا التزام اجتماعي، أو أخلاقي قبل أن يكون ديني أو إيماني.
وبالطبع إذا كان هذا هو شأنهم مع الأسرة والأزواج والأبناء، فالأمر يقتضي أيضًا أن يحاربوا فكرة وجود خالق. أو الأسوأ والأخطر، أن يضغطوا على الحكومات وبالتالي الأفراد لتغيير هوية الأديان (بمختلفها) ليجبروا معتنقيها أن تتقبل الأديان ما لا تقبله الفطرة! وبعض المتدينين يرضخون على مضض وبغصة في الحلق حتى لا يُوصف دينهم بالعنصرية والتفرقة ومخالفة طبيعة الإنسان.
وهم يتناسون أن الدين جاء يهذّب طبيعة الإنسان ويكرّه إلينا فكرة انسياق الإنسان وراء نفسه! وهناك أيضًا من عزف عن الاجتماعيات بسبب ما لاقاه من ألم ومعاناة مع من كان من المفترض أن يكونوا أقرب الناس إليه، فتجده لا يتواصل مع والديه إلا من باب البر فقط أو لا يتواصل معهم أصلاً. وتجده لا يسعى للزواج.
إشكالية هذا الطرح
ولكن ما المشكلة حقًا في هذا الطرح؟ لماذا على الإنسان أن يتقيّد بقدسية الأسرة المباشرة وأن يسعى للارتباط بشريك حياة واحد وأن يلتزم بالتعاليم الربانية؟ هل الإشكالية في هذا الطرح، دينية وإيمانية فقط؟ أم أن هناك أثر سلبي على حياة الإنسان وتوازن صحته النفسية والجسدية إذا تجاهل الفطرة؟ التبس الأمر عليّ قليلاً ولكن ترابطت الأفكار عندما عدت للعلوم الإنسانية التي تدرس الإنسان الذي خلقه الله ﷻ وتخبرنا بما تكتشفه يوميًا عن هذا المعجزة الحقيقة التي تمشي على رجلين!
فالعلوم لا تخترع حقيقة الكون ولا حقيقة الإنسان. بل تكتشفها. فكل العلماء النابهين كأينشتاين، ونيوتن، ونوبل، وابن الهيثم، وابن سينا، وغيرهم، لم يخترعوا قوانين الفيزياء، والكيمياء، والطب! بل هم درسوا ما هو كائن فعلاً حتى نستطيع الاستفادة من تلك القوانين الكونية التي خلقها الله ﷻ بهدف تحسين الحياة وتيسييرها. لا أحد يحاول إلغاء أثر الجاذبية الأرضية. لا أحد يحاول تغيير قوانين الكيمياء. فقط نقبلها ونتعامل على أساسها. وعلم النفس التقليدي والإيجابي يدرسان الإنسان ويستخرجان أسرار النفس وقوانين فطرتها بما لديهم من أدوات وحسب السقف المعرفي لكل عصر (تمامًا كالعلوم التطبيقية). فالمفروض أن نستفيد من اكتشافاتهم لا أن نسعى لتغيير تلك الفطرة والقوانين الربانية لحفظ النفس وتوازنها. وليس من المُجدي أيضًا كلما درس أحدٌ العلوم الإنسانية، أن نهاجمه ونقول له أرجع إلى الدين وأننا لا نحتاج الغرب!! فهو بالفعل سيجد نفسه في دائرة ستعود حتمًا إلى الخالق لأنه إنما يدرس قوانين الخالق في هذه النفس ونتمنى أن يُسهم الشرق أيضًا في هذه الدراسات بشكل لا يجعلنا نصف هذه العلوم “بالعلوم الغربية”! فما الذي نعرفه عن النفس وفطرتها حتى الآن فيما يتعلق بموضوع المقال؟
بحث الإنسان عن المعنى
من أهم ما تشير إليه العلوم الإنسانية في محاولة فهم الحاجات الإنسانية، وفهم ما يُسعد الإنسان، هو المعنى!
فالإنسان يبحث عن المعنى والقيمة والهدف والرسالة. عندما يجد الإنسان المعنى ويتمسك به، يمكن أن يحارب من أجل رسالته ويضحي في سبيلها بكل ثمين وغالي حتى آخر أنفاسه. وعندما لا يجد الإنسان لحياته معنى، ربما أنهى حياته حتى وإن كانت لديه الأموال والشهرة والسلطة. بالمعنى يسعد الإنسان وإن لم يملك شيء. وبدونه يشقى وإن ملك كل شيء.
ومن جمال المعنى أنه يختلف من شخص لآخر. فالحياة تذخر بالأحلام، والأهداف، والجهود، والمبادرات التي تتنوع بتنوع ما له معنى لدى أصحابها. ولكن ما علاقة المعنى بأهمية الأب والأم وشريك الحياة؟
يحكي الدكتور “فيكتور فرانكيل“، الطبيب النفسي وعالم النفس، في كتاب “بحث الإنسان عن المعنى” أنه أثناء اعتقاله في معسكرات هتلر، رافق العديد من السجناء الذين كانوا يفقدون الرغبة في الحياة كل يوم بسبب كل ما يلاقونه من هوان وأذى وبسبب انعدام الرؤية المستقبلية وفقدان الأمل في انتهاء مأساتهم. وكان يتحدث مع أثنين منهم يومًا عندما استشعر ميولهما الانتحارية إذ قالا له، كما يقول الكثيرون، أنه لم يعد هناك ما ينتظرونه من هذا العالم! لقد فقدا المعنى والشعور بقيمة الحياة!
يحكي “فيكتور فرانكيل” أنه قال لهما أنه يعلم أنهما بانتظار أن يقوم العالم بإنصافهما أو بأن تنتهي الحرب ويأت أحدهم لإنقاذهما. “هذا هو ما تنتظراه من العالم، ولكن ما الذي ينتظره العالم منكما؟” أجد أن هذا السؤال هو عن المعنى والقيمة لحياتك. ما الشيء الذي تضيفه للعالم؟ قال له أحدهما أنه باحث كان قد بدأ في كتابة سلسلة كتب علمية وهو يود أن يُنهي هذا العمل. وقال له الثاني أن ابنته التي يحبها بشدة تمكنت من الهرب إلى بلدٍ آخر وأنها بانتظاره. يقول “فيكتور فرانكيل” أن هذا الإدراك كان كفيلاً بأن يزرع في قلب كل منهما الأمل والمعنى. ويقول أن كلٌ منا يبحث عن شيء لا يمكن لأحد آخر عمله نيابةً عنه.. شيء هو فقط من يستطيع انهاءه!
جملة واحدة أو نصف جملة في كتاب د. “فرانكيل” كانت هي النواة لفتت نظري لأحد الأسباب المتناهية في الأهمية لضرورة الحفاظ على الأسرة وحمايتها بكل ما أُوتينا من قوة في وجه دعوات الحرية الشخصية والجندرية، والاستقلالية، وانتماء الطفل للدولة وليس للأسرة وحتى في وجه العقد النفسية التي تحبب للمرء الانعزال اجتماعيًا! يعلّق د. “فرانكيل” على قصة السجينين بقوله أنه لا أحد كان بإمكانه أن ينهي البحث العلمي بطريقة الباحث وتسلسل فكره سواه. وأن السجين الآخر لا أحد كان يمكن أن يأخذ مكانه ومحبته في قلب ابنته سواه! وأجد أن هنا تكمن معجزة الأسرة ورفيق الحياة!
شخص واحد أنت تعني العالم كله بالنسبة له
بالنسبة لبلايين البشر الذي تتقاسم معهم الحياة على هذا الكوكب، أنت لا شيء! لا أحد يشعر بوجودك أو غيابك. ولكن بالنسبة لشخص واحد أو عدة أشخاص مقربين منك، أنت تعني كل شيء! شخصٌ واحدٌ تتهلل أساريره عند لمح وجهك بين سواد الناس ويطرب لسماع صوتك! اسمك الأول متوجٌ في قلبه وملامحك أنت محفورةٌ في مخيلته! شخصٌ لا يتخلى عنك في الدنيا مهما تعثرت ومهما انحرفت عن الطريق الصحيح. شخصٌ يفهمك ويرى من خلالك ويعرف ما بداخلك من أحلام ويدرك ما ممرت به من الآم… يعرف قصتك بكل فصولها. شخصٌ ينفق المال ويسافر عبر القارات ليراك! من المهم أن يكون في حياتك شخصٌ، يدرك ما فيك من خير أو ما تبقى منه ويرى أفضل نسخة ممكنة منك! تلك النسخة التي لا تريد أن تخيّب ظنه فيك وتسعى للوصول إليها لتكون عند حسن ظنه. شخصٌ واحد يرافقك الرحلة بكل تفاصيلها ويكبر معك وتتغير ملامحه معك.
قد تكون محظوظًا بعدة أناسٍ من هؤلاء في حياتك؛ أصدقاء، إخوة لك لا تربطك بهم رابطة دم. ولكن الأصل، أن يقوم والداك بهذا الدور في حياتك، ثم يسلمان مقاليد هذا الدور لشريك حياتك. وربما قام به إخوتك وأخواتك أيضًا. والأصل أن هذا الشخص يقيم معك ولا يلتهي بأسرته وحياته عنك. هو شخصٌ مخصص لك أنت وأنت مخصصٌ له! القصد هو أن الله ﷻ قد صمّم لك نظام دعم محكم. والمُفترض ألا يخذلك هذا النظام وأن يكون حجر الزاوية في ايجاد المعنى لديك إذا نفذنا أدوارنا فيه بالميزان الدقيق الذي وضعه الله ﷻ لنا. وعندما يكون الوقت مناسبًا، ستقوم أنت أيضًا بنفس الدور لشريك حياتك ولأبنائك.
أمي أجمل أم في الدنيا وأبي أعظم أب!
ربما رأيت على مواقع التواصل الاجتماعي من يضع صورة والدته ويقول “أمي أفضل نساء الكون”. أو ربما رأيت من يقول عن والده أنه لا أحد في الكون مثل أبيه! وبالطبع يرى الأب ابنه والأم أبناءها على أنهم أغلى ما في الكون؛ بينما قد يضيق الآخرون ذرعًا بهم! وكلٌ من هؤلاء صادق. نعم هذه الأم هي أفضل نساء الكون في عين ابنها. وهذا الأب هو لا أحد في الكون مثله في عين ابنه. وهذا الولد أغلى من في الكون في قلب أبيه أو أمه فقط. وهذه معجزة إلهية بالفعل! معجزة تجعلك ذا معنى عند شخص ما ولك قيمة لا تنتهي لدى أحدهم؛ مما يدعم شعورك بالثقة، والمعنى، والقيمة التي تضيفها في الحياة. قيمة تضيفها فقط بوجودك المجرّد، لا لأي انجازٍ فعلته! وذلك الأثر الذي تتركه الأسرة في النفس يمتد حتى بعد رحيل الأحباب (حمى الله أحبابكم من كل سوء)! فتجد المرء يشخص ببصره بدعوةٍ قلبية وشبح ابتسامة يوم تخرجه وهو يفكّر في والده الذي لم يعش ليشهد تلك اللحظة، ولكنه على يقينٍ أنه قد حقق أمنية له! إن هذا السحر لمعجزة من معجزات الخالق سبحانه.
الامتداد ونقل الأثر والاستمرارية
إنه لمن دواعي الشعور بالمعنى أيضًا أن يدرك الإنسان امتداد أثره بعد أن يمضي من هذا العالم. قد يُعبّر عن ذلك بقوله “ابني يحمل اسمي”. وأحيانًا يسعد بالأشياء التي يعلّمها لابنه الذي يعتبره مصدر الخبرة في العالم مهما كانت هذه المعلومات بسيطة. أو قد يُسعده أن يجد ابنه يحافظ على شيئٍ كان يفعله هو. أو أنه له قسمات وجهه التي ستستمر لأجيال بعد أن يذهب هو. أو أنه سيكون هناك من يدعو له ويتصدق عنه بعد رحيله.
لبعضنا، انتقال الأثر هذا واستمراره هو أحد أسباب المعنى والقيمة في حياتهم. كما أن وجود الأبناء، هو فرصة جديدة يقدمها لك الله ﷻ لتختبر الحياة من جديد. فمن يُنجب، يكون قد وصل لمرحلة عمرية ليست بالصغيرة. وفي الغالب تكون حياته قد تعقدت وربما اختلطت عليه الأمور. كما أنه بالتأكيد لا يذكر كيف اكتسب القناعات وهو صغير وكيف تأثرت مشاعره بتلك القناعات. وجود مخلوق صغير جديد في حياته يقدم له فرصة جديدة لتعلّم كل شيئ من البداية. مع كل سؤال من أسئلة الطفل، يدرك المرء أنه يحتاج لأن يبحث عن أجوبة لأبسط أمور الحياة وأكثرها بديهية. وتبدأ مع رحلة البحث تلك، رحلة اكتشاف لمعانٍ تائهة، فيتجدد المعنى لديه ويتضح ويقوى. وجود الطفل هو فرصة ثانية للحياة!
الذئب الوحيد Lone Wolf
إن غياب نظام الدعم هذا، قد يؤدي بالشخص إلى انحراف كامل في مسار حياته. وإذا لم يؤد به إلى انحراف المسار، فإن غياب الأسرة ونظام الدعم يقلل فرص عودة الشخص للمسار السليم إذا انحرف هو بمساره.
رغم أن مصطلح “الذئب الوحيد” يٌطلق على المجرم الذي يرتكب جريمة إرهابية بشكل شخصي وفردي ليدل على أنه عمل بشكلٍ مستقل وليس كأحد أفراد منظمة إرهابية أو جماعة منظمة، إلا أن هذا المصطلح لا يبعد كثيرًا في معناه الحرفي عن الحقيقة! فمعظم الذئاب الوحيدة التي سمعنا عنها في الآونة الأخيرة في حوادث إطلاق النار العشوائية في المدارس والأماكن العامة، كانوا فعلاً وحيدين لا تعرف عنهم أسرهم شيئًا ولا يتواصلون معهم. هم أناسٌ فقدوا خط الأمان الأول وحصن الحماية النفسية الأول في حياتهم. هم أناس، لم يكن لدى المجتمع أي رؤية في داخل حياتهم الخاصة وذلك بغياب تلك الأسرة ومجموعة الأفراد الملتصقين بهم في دائرة صغيرة يلاحظون تغيرات سلوكياتهم ومراحل غرابة أطوارهم وبالتالي يقدمون لهم الدعم المبكر، أو حتى يطلقون صافرات الانذار.
بل وقد تكون هذه الأسرة هي التي تسببت في الأزمات النفسية لتلك الذئاب الوحيدة في المقام الأول! إن النفس الإنسانية هشّة ومبنية على توازن دقيق. أقل التصرفات المقصودة أو غير المقصودة يؤثر فيها بشكل عميق. فاهتمام الأب مثلاً بطفلٍ على حساب الآخر (حتى ولو بمبرر كمرض هذا الطفل واحتياجه لعناية أكبر)، قد يُشعر الطفل الآخر بأنه غير مهم كأهمية أخيه. وإذا دعمت أحداث أخرى هذا الشعور عنده، كبرت كرة الثلج وأخذت في طريقها أبرياء تتقاطع طرقهم في حياة هذا الطفل في المستقبل. وتخبرنا أبحاث مرض النرجسية أن أحد أسبابه هو اهتمام الأهل في حياة الطفل بالنجاحات الظاهرية بدون الاهتمام الحقيقي بالطفل نفسه. فتجد الأم تصفق وتدعم من الصفوف الجانبية بينما ابنها يشارك في سباق للجري وتهلل وتصرخ في سعادة إذا فاز. بينما لا تعطيه الوقت في المنزل إذا أراد أن يقضي بعض الوقت معها. فينشأ هذا الطفل على تقديس الانتصارات الخارجية الزائفة البراقة بدون شعور حقيقي بقيمته كشخص ولا بقيمة التواصل الإنساني. ناهيكم عن التقصير والإيذاء التي يمكن أن يتعرض لهما الطفل نفسيًا وبدنيًا إذا نشأ في أسرة يعاني فيها الأب والأم أنفسهم من عقد طفولتهم هم.
لذلك فنظام الدعم والمعنى للشخص، يعمل بفاعلية فقط عندما يكون متسقًا مع الفطرة السليمة وملتزمًا بالوجود الحقيقي الواعي واليقظ في حياة الطفل لتقديم الغذاء الوجداني الذي يحتاجه لتحقيق السواء النفسي. عندما يتفكك نظام الأسرة أو يختل أداء أفراده، يخسر الجميع بلا استثناء أفرادًا ومجتمعات! النظام يعمل بحفظ ميزانه. ولا يخفى علينا بالطبع أننا أفسدنا هذا الميزان. وبدلاً من أن نسعى لإصلاحه للاستفادة من منظومة الأسرة، قمنا بالعكس وهو العمل التخريبي الأسهل! هناك عنف في الأسرة؟ هناك تدخل من أهل الزوج والزوجة؟ هناك تجاهل للمسؤوليات وعدم حفظ للحقوق؟ هناك أزواج وزوجات غير أوفياء؟ هناك أهل زوج أو أهل زوجة تتدخل في كل تفاصيل حياتك؟ هناك زوج يقيدك؟ الحل السحري إذًا هو أن نحارب نظام الأسرة الفاشل ذاك!! هكذا نفكر ونفعل للأسف، وندفع الثمن غاليًا أيضًا!
الأهل “هبة” من الله ﷻ
من يتتبع اللفظ القرآني “يرزق” واللفظ القرآني “يهب” عبر محركات البحث التي تُظهر الآيات القرآنية الكريمة التي تستخرج الآيات الكريمة المشتملة على الألفاظ ومشتقاتها، يجد أمرًا جميلاً يبعث على الامتنان. سيجد أن لفظ “الرزق” ارتبط بكل ما هو أساسي لحياة الإنسان وبدونه لا تستمر حياته المادية. فلفظ الرزق ومشتقاته مرتبط في القرآن الكريم بالثمرات، والماء، والطعام إجمالاً، والنبات، والأموال. أما لفظ “يهب” ومشتقاته، فهو مرتبط بالمعنويات الهامة في حياة الإنسان والمكملة لبقائه الجسدي ولا تستقيم حياته بشكل متكامل بدونها. ارتبط اللفظ بالأهل، والولد، والأخ، والرحمة، والحكمة، والحكم والمُلك. يقول الله ﷻ:
– وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ﴿٥٣ مريم﴾
– وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا ﴿٤٣ ص﴾
– فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿٢١ الشعراء﴾
– لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴿٤٩ الشورى﴾
– الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴿٣٩ ابراهيم﴾
– قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴿١٩ مريم﴾
– وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴿٧٤ الفرقان﴾
وارتبط لفظ الوهاب بالرحمة. يقول تعال:
– أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ﴿٩ ص﴾
– وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا ﴿٤٣ ص﴾
– وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ﴿٥٣ مريم﴾
وهذا بديهي ومنطقي. فالرزق للجميع بدرجاتٍ متفاوتة لأنه لا يمكن الحياة المادية بدونه. أما الهبة وهي الزيادة والفضل، فهي في الهبات المُكمّلة للحياة. وهذا يعني أنها ليست حقًا مُكتسبًا. بل هي عطاءٌ إلهي مرتبطٌ بعلم الله ﷻ وقدرته. يقول تعالى في سورة الشورى:
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴿٤٩﴾ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿٥٠﴾.
والآية تبدأ بأن الله عز وجل له ملك السماوات والأرض. فهو بشكلٍ يديهي متحكمٍ في هذا المُلك ومتصرّفٌ فيه كما يشاء. وتُختتم الآية بأن الله عزّ وجلّ هو عليمٌ قدير. فتصرّفه في ملكه هو حسب علمه فهو سبحانه وتعالى يعلم ولا نعلم نحن ما هو خير مما هو غير ذلك. وهذا ينقلني للنقطة التالية الختامية.
إنا لله وإنا إليه راجعون
الله ﷻ الذي جعل لكلٍ منا نظام الدعم هذا، وهو هدية ومنحة وهبة إضافية. الزوجة والولد والأخ هي هبات من الله ﷻ ومنح وربما لن يكون لشخصٍ ما نصيبٌ منه. هو نظام دعم من الخالق سبحانه وهو نظام اختبار أيضًا. فقد يكون الأهل والأزواج والأبناء فتنة أو عدو في بعض الأحيان كما أبلغنا الله ﷻ. ويصف الله ﷻ الأبناء أيضًا بوصف “الزينة” في القرآن الكريم. يقول تعالى:
– الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴿٤٦ الكهف﴾
والزينة هي من المسرّة والبهجة التي تجمّل الحياة. وقد تكون أيضًا بمعنى زيادة وإضافة مكمّلة على شيئٍ أصلي. فلذلك من الجميل أن نستمتع بتلك الزينة والهبات وتقر أعيننا بها وتساعدنا على إيجاد المعنى ولكن علينا أيضًا أن نتعامل معها على أنها هبات مؤقتة قد نفقدها لأي سببٍ من الأسباب. فلا نحن نمحور حياتنا كلها حولها. ولا نحن نسيئ إلى تلك الهبات لأننا نحرص على بقائها معنا. وهذان معنيان رائعان إذا أمعنت التفكير! فنتاجهما شخصٌ مستقرٌ وجدانيًا وثابت الانفعال عند الفقد والفراق، وأيضًا شخصٌ محب رقيق التعامل مع تلك الهبات! أما السلام الحقيقي فهو في الانتماء للخالق سبحانه الذي لا يغيب عندما يغيب الجميع أو يسيئوا لك أو نغيب أنت عنهم! إنا لله وإنا إليه راجعون!
الله ﷻ أخبرنا أن السلام النفسي والأمان الوجداني هو في أن تكون محبته سبحانه ومحبة رسوله ﷺ أقوى في قلوبنا من حبنا لأنفسنا ولأي شيئٍ آخر وأقوى من حبِ أي شخصٍ آخر! يقول تعالى:
“قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ” (التوبة:24)
إن الأمان النفسي في أن يتغلب حب الله عز وجل على سائر المحاب. والتربص والقلق والتوتر هو في التعلق بسائر المحاب بشكلٍ مرضي فنخاف عليها ونسعى لفعل أي شيئ للاحتفاظ بها حتى ولو كان على حساب هويتنا الأصلية. راجع مدوّنة فتربصوا. فالأصل في الإنسان أن يجد المعنى والقيمة وسبب الوجود في الانتماء لله ﷻ وهو لا يتعارض مع بقية المحاب ولكن يسبقها في الأولوية والأثر. راجع مدوّنة لم يكن الهدف أبدً أن نبقى معهم. وفي وجود هذا الحب الأصلي، والمعنى الأصلي، والقيمة الأصلية، يجد الإنسان أهمية لحياته وتكون غاياته كلها مخلصة لله ﷻ. وحينها تكون الرغبة في إرضاء الأهل وجعلهم يفتخرون بالابن تكون نتيجة وليس هدفًا في حد ذاتها. هي نتيجة لطاعة الله سبحانه ببر الأهل. ويكون حب الأهل وتقديرهم للابن هو نتيجة أيضًا. نعم، تصبح نتيجة إن اتت، كان هذا رائعًا. ولكن إن لم تأتِ، لا يضيع الإنسان ولا ينهار ولا تقل ثقته بنفسه. بل يستمر في الثبات على المبدأ بخطًا واثقة كابن سيدنا آدم لا يضره كراهية أخيه له، وإبراهيم عليه السلام لا يضره عداء أبيه له، ويوسف عليه السلام لا يضره كيد إخوته له.
كيف يجد الإنسان المعنى عن طريق الحب
إن هذه الهندسة الاجتماعية الربانية المتمثلة في نظام الأسرة، لهي خط دفاعك الأول في هذه الحياة. وهو الأول قبل قلبك ووعيك الداخلي لأن الأسرة تتسلمك قبل أن ينضج فيك القلب والوعي وتساهم في تشكيل كل ذلك قبل أن تتسلّم أنت زمام أمورك. وما تلبث أن تتسلّمها وتبدأ في تخطيط حياتك، حتى تربط مصيرك بشريك الحياة والذي يؤثر في حياتك أيضًا بالدعم والبناء إذا كان اختيارك سليمًا وكنت أنت أيضًا الاختيار السليم لهذا الشخص! وكل هؤلاء هم مصدر من مصادر شعورك بقيمتك ومعنى وجودك وأنت أيضًا كذلك في حياتهم. وهم خط دفاعك أيضًا عندما تقصّر في حق نفسك أو تستسلم وينحرف قلبك ووعيك في المعركة الضارية المستمرة بين القلب والحياة. حينها ستجدهم هناك أيضًا يحاربون إلى جانبك بإذن الله. كل هذا الجمال يقف في وجه القبح المتمثل في دعوات التفلت والحرية. كل هذا الحب يقف في وجه الكراهية وغلّ القلوب. هذه الفطرة وكل هذا السواء يقف في وجه الاختلال النفسي والعبث بالكيان الإنساني.
ولكن، وقبل كل شيئ، تعرف أين انتمائك الحقيقي وتعرف أولويات قلبك إذا حدث خلاف بين محابك! وهبنا الله وإياكم من نعم الدنيا وزينتها، وجعلها في أيادينا لا في قلوبنا، وأدام علينا وإياكم كل من نحب!