اسمك*
الخدمة*
الدولة*
المدينة*
عنوان بريدك الإلكتروني*
رقم هاتفك*
المبلغ $*
بقلم: ياسمين يوسف
31 أغسطس، 2020
هادم اللّذات، ومفرّق الجماعات كما يصفه الكثيرون. لا مفر منه ويهابه الجميع ويعكّر عليهم صفو حياتهم. الموت… أكبر المخاوف ومسبّب الأحزان. ولكن، هل يمكن أن يكون الموت نعمة لم نمتن لها يومًا ولم نشكر المميت سبحانه عليها؟ فلنتأمّل سويًا. بين حين وآخر، تطل علينا أخبار تحوم حول تحدي الإنسان لفكرة الموت. بدءً بالمشاهير الذين يسعون لتجميد أجسادهم بعد الموت أملاً في إعادتها للحياة عندما يكتشف العلماء علاجًا للموت، مرورًا بالأنباء عن أبحاث وتجارب لإطالة عمر الخلية وانتهاءً بالأخبار عن التجارب والأبحاث لإيقاف الموت، يصبح موضوع “الحياة الأبدية” وموضوع “إيقاف الموت”، موضوعًا يجب أن نتناوله. والسبب في أهمية تناوله ليس لإثنائنا عن فكرة السعي نحو إيجاد علاج للموت أو لإثنائنا عن الرغبة في الحياة الأبدية فحسب، بل لمساعدتنا على التالي:
هذا ليس مقالاً تحفيزيًا من مقالات وأوهام التنمية البشرية. هو دعوة لوقفة فلسفية ورحلة فكرية وروحية عميقة نحو حقيقة قناعاتنا ومشاعرنا تجاه موضوع من أهم المواضيع المسيطرة على تفكيرنا… ألا وهي فكرة “الموت”. والطرح هنا سيكون علميًا ومنطقيًَا وليس فقط روحيًا، لكي نعلم أن الموت هامٌ حتى بدون اعتبارات إيمانية.
إن من عادة الإنسان أن يندفع نحو قرارات وتجارب بدون أن يسأل نفسه، “ثم ماذا بعد ذلك”؟ تقول الدكتورة “لارا بويد” أستاذة المخ والأعصاب بجامعة “بريتيش كلومبيا” الكندية في حديث لها، أن التقدم الطبي ساهم في تقليل عدد الوفيات الناتجة عن الجلطات الدماغية بعد أن كانت السبب الأول للموت عالميًا. وتضيف، نعم نجحنا في أن نمنع الجلطة الدماغية من أن تكون السبب الأول للموت في العالم ولكننا جعلناها السبب الأول للإعاقة في العالم. فنحن لدينا العلم لكي ننقذ مرضى الجلطات الدماغية من الموت ولكنهم يعيشون بالضرر الناتج عن الجلطات لسنوات عديدة وبحالات إعاقة متنوعة.
نعم، هذا فقط مثال واحد لسعي الإنسان إلى “حل مشكلة” منعزلة عن بقية العوامل وبعدم اعتبار لكل النتائج المُحتملة. وكانت النتائج أننا قمنا بحلّ مشكلة وتسببنا في مشكلة أخرى.
تخيّل حياة الفرد مع إعاقة ذهنية أو جسدية على مدار ما تبقى من حياته عافانا الله وإياكم. نتحدث عن إعاقات كالعمى الكامل أو الجزئي، وضعف أو تدهور الذاكرة، وشلل الأطراف، وغيرها من الإعاقات. هذا وخصوصًا أننا نجحنا في إطالة متوسط العمر للفرد بتحسن الرعاية الصحية والمستوى المعيشي، فيعني هذا استمرار المعاناة لفترة أطول!
تخيل شعور الشخص المعتمد على الآخرين في كل تفاصيل حياته، والموارد التي يتحتم على الدولة اتاحتها للعناية به. تخيّل معاناة أهله الذين تتغيّر حياتهم تمامًا للتوفيق بين حياتهم وبين العناية به. تخيل انتاجيته المفقودة وانتاجيتهم المفقودة وصعوبة العيش واختلال التوازن وارهاق هذا النمط من الحياة! ثم فكّر أيضًا في محاولات بعض هؤلاء المرضى للانتحار، وحتمية إثارة “القتل الرحيم” كحلّ لهذه المعاناة ومناقشة الدولة لها في سياق القوانين ومعاناة الممارسين الصحيين إذا تحتم عليهم المشاركة في شىء كهذا!
وبرغم وضوح اختلال النظام ووضوح النتائج الكارثية للتدخل الإنساني غير المدروس في قوانين الحياة، إلا أن الإنسان يستمر في ذلك التدخل بدون دراسة وبدون رؤية لكيفية التعامل مع نتائج عمله إذا كُلّل بالنجاح! فما الذي سيحدث إذا نجح الإنسان، فرضًا، في إيقاف الموت أو علاجه؟!!
إن العواقب الفنية لفكرة الخلود في الحياة الدنيا لا قِبل لنا بها. فهؤلاء العلماء الذين يعملون على حلم الخلود، يعملون بمعزل عن دراسة تلك العواقب. وإذا افترضنا جدليًا بغرض التفكّر، أنهم نجحوا في مساعيهم، هل هم مستعدون لتقديم حلولٍ للوحش الذي قاموا للتو بإطلاقه؟! من أين نبدأ؟
كل هذه هي فقط بعض النتائج اللوجستية التي لا قِبل لنا بمواجهتها! وبالتأكيد هناك الكثير من النتائج الأخرى المتعلقة بالصراعات بين الأفراد والحكومات والشعوب والتي ستتضاعف وتتعقد بلا شك في صراع من أجل الموارد، والبقاء، والسيطرة!!!
إن عمليات الهدم والبناء هي عمليات مستمرة في جسد الإنسان، كما يقول الدكتور مصطفى محمود رحمه الله. فالموت والحياة متلازمان ومتواجدان في مرافقة طوال الوقت في الجسد. ففي الساعة الواحدة تموت ما يقرب من 60 مليون خلية في جسدك ويتم انتاج خلايا جديدة. وعملية الهدم هذه هامة جدًا لتجديد الخلايا وللحياة. ما الذي سيحدث إذا لم تمت الخلايا؟ تخيل عدم قدرة الخلايا المحترقة في الجلد أن تموت وأن تظهر محلها خلايا جديدة؟ ماذا لو لم تمت الخلايا الخبيثة؟ إن الموت في الجسد الإنساني مهم للحياة، فكيف يخطط العلماء لحلّ المشكلات الناتجة عن عدم موت الخلايا؟ تبدو الفكرة عبثية!
أما النتائج الوجدانية، فحدّث ولا حرج. تخيّل أن تعيش في هذه الحياة الدنيا بكل معطياتها وبوضعها الحال، إلى الأبد!!!
يقولون “كفى بالموت رادعًا”! نعم، إن “فكرة الموت” هي من الأسباب الرئيسية التي تردع الكثيرين عن ارتكاب الشرور. إذا كانوا مؤمنين بآخرة وحساب بعد الموت، يردع هذا الكثير منهم ويدفعهم للتوبة مخافة الحساب والعقاب. ومن الناس من تدفعه فكرة الموت إلى الصلاح فقط ليترك ذكرى طيبة في نفوس ذويه بعد مماته. ومنهم من يترك المعاصي خشية الموت. كالتوقف عن الإدمان، والتدخين، والعلاقات الجنسية المحرّمة خشية الأمراض المؤدية إلى الموت.
تخيّل حياة بلا موت؟ ما الذي سيكون رادعًا للمجرمين والمخطئين؟ وأخصّ بالذكر طبعًا الطغاة والظالمين والأثرياء فوق طائلة القانون! ما الذي سيكون رادعًا للتوقف عن كل ما قد يجلب الأمراض؟ إن في منع الموت تعطيلاً للنتائج السلبية لأسلوب الحياة الخاطىء. إن في الخلود الدنيوي مشجّعًا على الظلم ومثبّطًا لأمل المظلومين في أنه على الأقل سيأتي يومٌ ويموت هذا الظالم. ولكن الخلود الدنيوي يتيح المجال للظالم أن يستمر، ويتمدد، وينتشر، ويستفحل ظلمه بلا نهاية!! أهذا حقًا ما نريده؟
وماذا عن الفقراء، والتعساء، والمظلومين، والمرضى، واليائيسين، والذين عانوا الأمرين من غدر الأصدقاء، وتخلي الأولياء؟ إن هناك من يحيا حرفيًا على أمل الحياة الأبدية الخالدة في النعيم المقيم بعد الموت بإذن الله إن رحمنا الله ﷻ. ففي هذه القناعة سلوى وتعزية وتثبيت على الصبر والتحمّل. وماذا عن المجتهدين، والمثابرين، والمتحملين للصعاب بدون أن يجدوا نتائج هذا العمل والجدّ في هذه الحياة؟ هم يعيشون على يقين بأن الله ﷻ يشهد، ويُحصي، ويحسب، ويميت، ويبعث ويحاسب، ويكافيء، ويعاقب. فالمؤمن عندما لا يستطيع أن يأخذ حقه في الدنيا، يطمئنه أنه هناك رد للحقوق وحساب للظالم في الآخرة. فكيف يمكن أن يعيش إذا وجد أنه لا يوجد هناك موت ولا يوجد مخرج له من معاناته وأنها ستستمر للأبد؟!
ثم أن الموت هو القاتل الأعظم للتسويف وللغفلة! عندما يؤمن الإنسان أنه يمكن أن يموت في أي لحظة وأن الحياة الدنيا قصيرة، ينبري لعيش الحياة كما ينبغي أن تكون. فتجده يبحث عن المعنى والقيمة والعطاء ويضع الأهداف ويسابق الزمن لتحقيقها قبل أن توافيه المنية. تخيّل لو أنه ليس هناك موت، ما الذي يمكن أن يحدث؟
ثم يأتي الشوق. ياتي شوق المحبين لرؤية وجه الرحمن ﷻ، وللاستظلال في ظل عرشه والنظر إليه ومخاطبته! يأتي الشوق للقاء الحبيب ﷺ، ولمرافقته في الجنة! هل حقًا نريد أن تُسلب منا هذه القناعات وهذا الأمل!!
هناك أيضًا الكثير من العواقب الاجتماعية المتعلقة بالعلاقات الإنسانية والتي تتدخل فيها عوامل العمر والصحة والقوة. إن التقدم في العمر يُعطي الشخصية ملامحًا جديدة ويتسم الإنسان بالرفق والرحمة ويكون لديه التفرّغ الكلي أو الجزئي أيضًا فتجده يعتني بأسرته وأحفاده وجدانيًا ويكون صديقًا لأبنائه متاحًا لهم عندما يحتاجونه.
إن قوة الإنسان تلهيه وتشغله بالسعي والاستمتاع بالحياة عن العلاقات الإنسانية. بينما، ضعفه في كبره يجعله ليّن الجانب ويجعل ذويه حريصين على قضاء الوقت معه لأنهم لا يعلمون إلى متى سينعمون بصحبته. كما أنه تخف قبضته التحكمية عن أبنائه بتقدمه في العمر واعتماده عليهم، مما يسمح لهم بالاستقلالية وإدارة حياتهم كما يريدون.
ثم عندما يترّجل الراكب ويصل إلى وجهته أخيرًا، يذهب إلى خالقه محمّلاً بالأوجاع وبالقصص وبالرجاء وحسن الظن. يمضي لفصلٍ جديد في “حياته”، ويترك لعائلته إرثًا ماليًا قلّ أو كثر يعينهم على الحياة.
إن لكل مرحلة في الحياة جمالها ورونقها ومشاعرها المصاحبة التي تسهم في نمو الإنسان وجدانيًا وأخلاقيًا. كما أن موت الأقارب والأحباب يجمع الناس ويُنهي الكثير من الخلافات ويقرّب الناس من بعضها البعض. إن اختفاء الموت سيتسبب في العديد من التداعيات في العلاقات بين الأباء والأبناء، وبين الأزواج والزوجات والعلاقة مع أهل الزوج والزوجة. سيؤثر على نظام الميراث وغيرها من الأمور الاجتماعية. فهل نحن مستعدون لذلك؟
والآن بعد كل هذا، إذا اكتشف العلماء علاجًا للموت، هل ستأخذه؟
ولقد طرحت هذا السؤال على الأعزاء وعلى أصدقاء مشروع سلام على الفيسبوك وكانت لهم إضاءات رائعة. واستخدم بعضهم جُملاً توقفت عندها طويلاً من عمقها وجمالها.
سمية، تساءلت عن مصيرها إذا أخذت ذلك العلاج بينما لم يأخذه أحبابها وماتوا واحدًا تلو الآخر وظلت هي!!! تقول “حينها ربما يصبح الموت أمنية”!
أمجد، يقول “العاشق يتوق إلى لقاء محبوبه ويتيقن بأنه لم يأت إلى هذه الحياة إلا لكي يعود إلى خالقه مرة أخرى”.
سارة، تقول أنها “لا تتمنى مطلقًا حياة أبدية” رغم الخوف من الموت ورهبته.
أسامة يقول “كم من أساطير للتجبر والطغيان انتهت بموت صاحبها لتولد حياة…حيوات…أمل في نفوس عانت وتألمت وطال عليها الكرب حتي كادت تيأس..”.
كل آرمان من أفغانستان يقول “إذا لم يكن هناك موت، لظل طغاة التاريخ معنا إلى هذا اليوم مستمرين في شرورهم. وما كنا ورثنا منازل أجدادنا حيث أنهم سيظلون ساكنين فيها. وما سعينا للعناية بأحبابنا خوفًا من أن نفقدهم”
عزة تقول “لا، لأننا نعيش فى الدنيا ونتحمل الظلم والفساد والقهر على أمل التلذذ برؤية وجه الله ﷻ وصحبة الرسول ﷺ فى الجنة فى الآخرة ولو أضمن هذا الفوز فى الآخرة لتمنيت الموت قبل أن أعيش”.
عبد الله يقول “الموت هو ميزان هذه الحياة و من دونه سبختل نظام العالم كله ليس فقط بلد من البلدان”.
آمال تقول “بالتأكيد لا، كيف سأقابل الله ﷻ إذًا!! من لا يرغب لقاء الله ﷻ لا يرغب الله ﷻ لقاءه”.
سامي يقول “اذا وجد علاج له سأتمنى الموت لأنه الدنيا سيستلمها الديكتاتورين للأبد ولست مستعدًا لأن أعيش في هكذا عالم”.
سامر يقول “لن اغامر ولن أختار شيئًا من فعل الإنسان. وأكيد سأختار ما هو من خلق الرحمن”.
إيمان تقول “فكرة الموت بدون الاستعداد له مؤلمة لكنه بداية لحياة جديدة بإذن الله ورحمته في الجنة. أرفض البقاء الأبدي في الأرض”.
نورا تقول “وكيف نهنأ بسكنى معبر يؤدي بنا إلى من نتوق للقياه .. إنا لا نطيق صبرا .. نريد ان نحلّق في دار الخلود حيث الحب والحبيب”.
وصف البعض “الموت” بأنه “نعمة“. لم يُجب بنعم سوى ثلاثة من أصل 55 تعليق في خلال ساعات من نشر المنشور. أعتقد أن هذا يقول الكثير.
إذا كانت لديك وجهة ما، فربما لا تُلقي بالاً لطريقة وصولك إليها طالما ستصل! لا يهم أن تستقل باخرة، أو طائرة، أو درّاجة نارية. كذلك الموت، هو وسيلة انتقال من هذا العالم المؤقت، إلى عالم آخر أبدي حيث الخلود بإذن الله الباقي. لا يختلف الموت كآلية انتقال عن إذا ما قالوا لك أن وسيلة العبور لذلك العالم ستكون بوابة تمر من خلالها، تتفتت في أثنائها جزيئات جسدك ويُعاد تشكيلها في الناحية الأخرى من البوابة كما يحدث في أفلام الخيال العلمي، وتكتسب خصائص جديدة منها عدم بلاء الخلية وغيرها من الخصائص!
لا يهم كيف سنذهب طالما في طاعة ومرضاة الله ﷻ. لا يختلف مرض، عن تقدّم عمر، عن حادث. نسأل الله ﷻ أن يُحسن ختامنا. الأمر لا يستحق التوقف عنده كثيرًا ولا يستحق الانزعاج ولا ينبغي أن يعيق الرضا بقضاء الله ﷻ، طالما أن كل الطرق تؤدي إليه سبحانه!
من أجمل الوسائل لتهيئة الأطفال لفكرة الموت، هي تربية الحيوانات الأليفة. فعندما يموت الحيوان الأليف في يومٍ من الأيام، يختبر الطفل مشاعر الفقد والحزن على نطاق صغير محدود لأنه في النهاية ليس شخصًا عزيزًا عليه مهما كانت درجة حبه له. يعطي هذا أولياء الأمر فرصة للحديث للطفل حول الموت والحياة وتهيئته لتلك المرحلة الطبيعية من الحياة. من الضروري جدًا أيضًا عدم اطلاق العنان للنفس في استجابتها الدرامية لفقد الأحباب في الأسرة. فالطفل يشاهد ويكتسب القناعات حول الموت والتي تؤثر في مشاعره. وفي جايانا، يعتبر المسلمون الموت أنه حدثٌ يبعث على الطمأنينة لأن الشخص توقفت معاناته في الحياة وتوقفت ذنوبه حيث لن يرتكب المعاصي ولأنه سيلقى الله ﷻ. يجعل هذا من الموت حدثًا أقل مأساوية في هذه المجتمعات بسبب تلك القناعات وذلك الإيمان. من الهام إذًا تربية الطفل على قناعات سليمة حول الموت والحياة ومن الهام ألا نتعامل أمامه مع الموت على أنه كارثة نرهبها وننهار عند حدوثها حولنا.
إن الرؤية الإسلامية للحياة والموت والبعث هي أفضل الفلسفات التي تساعد الفرد على التعامل مع فكرة الموت. الموت هو فكرة واقعية حقيقية لا ينكرها أحد وليست كفكرة وجود خالق. والموت مع حتمية حدوثه ومعاينتنا الدائمة له حولنا بشكلٍ شبه يومي، يسيطر على تفكير الجميع. لذلك، نحن لا نحتاج لعلاجٍ للموت، بل نحتاج أن نعالج قناعاتنا حوله وحول الحياة ونصل لتصالح مع هذه الفكرة! وبين كل الفلسفات الموجودة، فإن الإيمان بوجود خالق خلق الموت والحياة بمعنى وحكمة واتصف بأنه المميت، الباعث، المُحصي، الشهيد، الرقيب، الحسيب، هي أقوى فلسفة تساعدنا على التصالح مع هذا الوحش وهذا الحجر الثقيل الجاثم على قلوبنا.
فلا جدوى من محاربة الموت أو مقاومته ولا لمحاولة اطالة الحياة. نحتاج أن نُلقي أسلحتنا ونفكّر في كل ما تقدّم لندرك جزءً من حكمة الموت ونراه كنعمة لا تقل أهمية عن نعمة الحياة! وندرك حينها أننا إذا امتلكنا الخيار، على الأغلب لن نود العيش للأبد في هذه الحياة الدنيا بشكلها الحالي. حينها، نتوقف عن رؤية الموت كشىء مفروض علينا ولا نستطيع الهروب منه وكأننا حقًا نود الهروب منه… لأننا لو صارت لدينا الفرصة، في الغالب لن نفعل. عندما نصل لهذه القناعة، سنبدأ في قبوله كتطور طبيعي لحياة كلٍ منا. كما أن فكرة البعث والحساب والخلود في نعيمٍ وسلام بإذن الله كفيلة بطمئنة القلوب وجعلها تقبل فكرة الموت. عندما نضبط كل تلك القناعات، حينها ننشغل بإصلاح أعمالنا ونشمّر لتلك الغاية الكبرى مستعينين بالله ﷻ.
ولأننا لنا نصيب من الأسماء الحسنى وحظ يساعدنا على إدارة الحياة، فإن اسم الله المميت يحمل لنا العديد من القدرات والإمكانيات التي تُصلح الحياة. من أول القدرة على قتل الحيوانات للاستفادة منها في الغذاء، والكساء، والدواء، مرورًا بردع المعتدين والدفاع عن النفس، وانتهاءً بتفعيل القصاص ومعاقبة القتلة المجرمين. ويضع لنا المميت سبحانه قواعد استخدام تلك القدرة على إنهاء الحياة بإذنه. فليس لأحد حق قتل نفس بغير حق، وليس لأحد حق قتل النفس، وليس لأحد حق الإجهاض للأجنة وقتل تلك النفس أيضًا. فهو سبحانه أعطانا تلك القدرة ووضع لنا معايير استخدامها كي لا يعتدي بها المعتدون، والمجرمون، والطغاة، والإرهابيون، ومدعوا الحرية والسيطرة على الجسد وغيرهم من العابثين! فالإيمان يهذّب قدرات الإنسان ويهدي دوافعه.
خطاب الرثاء
هناك تمرين أود أن أدعوك لعمله. هو تمرينٌ قاسٍ ولكنه مفيد جدًا. التمرين مستوحى من تمرين في برنامج العادات السبع للشخصيات الأكثر فعالية لستيفين كوفي. التمرين يطلب منك أن تتخيّل أنك في عيد ميلادك الثمانين وأن هناك حفل على شرفك يحضره أصدقاؤك وأبناؤك واقاربك. تخيّل أن كل واحد منهم سيلقي كلمة عنك في الحفل يمتدحك فيها بتفاصيل تخص علاقتك به. مطلوب منك تخيّل ما الذي تود أن يقوله عنك المقربون إليك؟ الهدف هو أن تحدد ما تود أن يقوله عنك ثم تبدأ في عمله من الآن حتى يستطيعون أن يقولوه عنك لاحقًا. فإذا كنت تود أن يقول ابنك أنك صديقه وأنك لم تجبره أبدًا على شىء أو تفرض عليه وجهة نظرك، وأنك كنت تقف بجواره دومًا قبل أن يطلب مساعدتك، حينها تدرك أنك تحتاج لأن تفعل كل هذا معه الآن.
الفكرة مميزة ولكني أجد أن في المناسبات السعيدة والاحتفالات، سيقول الناس عنك أشياءً ربما فيها مبالغات وربما فيها تملّق وقد تتمحور المشاركات حول انجازات مادية كأن يقول عنك مديرك انك ساهمت في رفع كفاءة قسم الانتاج في الشركة. لذلك أنا أطلب منك أن تقوم بالتمرين بشكلٍ مختلف. هو أن تكتب “خطاب رثاء” تتخيل فيه ما الذي سيقوله عنك من يعرفونك بعد وفاتك، أطال الله في عمرك وأصلح عملك. نحن نرى على مواقع التواصل الاجتماعي كيف يتحدث الناس عمّن رحلوا. يذكرون أعمالاً تلّخص أخلاقهم وقيمهم ودورهم المجتمعي. هذا ما نود أن نصل إليه.
ورغم أننا لا نسعى لترديد محاسننا، حيث أنه لن يدخل أحدٌ الجنة بأعماله، بل برحمة الله ﷻ. ولا يوجد أجمل ولا أكثر بعثًا للطمأنينة وللأمل والرجاء في القلب من أن تكون فقط في ذمة الله ﷻ. ولكني رغم ذلك، أشجعك على كتابة ما تود أن تُحمد عليه من الآخرين وأن تكتب عن الأثر الذي تود أن تتركه للإنسانية بعدك. حينها تتضح لك أهدافك وأولوياتك جلية وتضع الخوف جانبًا وتشمّر لمهمتك بإذن الله.
الحياة والموت مفهومان عميقان يجعل لهما “البعث” معنى. إن النظام المتكامل المُتقن الذي نظمه الخالق ﷻ، ليس هناك ما هو أبدع منه وأي عبث منا فيه، يُفسد الحياة كما نرى كل يوم. إن نظام الحياة جميلٌ بولادة الطفل ونموه في وقت قوة الأب والأم ثم بقوته هو في وقت ضعفهما. إن تدهور جسد الإنسان وحالته الذهنية مع تقدم العمر مدعاة لإثارة روح الدعم والتعاطف ممن حوله وإعطائه فرصة للاستمتاع بما تبقى من حياته بدون توقعات منه بالعمل والجد وكسب العيش والاستمرار في خوض معترك الحياة.
إن الحياة كما هي بكل تفاصيلها وبالموت الذي هو جزءٌ منها، منطقية، وبديهية. وعلى الإنسان ألا ينشغل بمحاولة تغيير قوانينها، بل بالاستفادة القصوى من تلك القوانين ليحيا حياة طيبة في الدنيا والآخرة بإذن الله. وختامًا، يقول تعالى “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ“. إن المؤمن بالله ﷻ موقن بإستحالة مقاومة الموت وبأنه حق ويقين ولا مجال للفرار منه. وإيمان المرء لا يكتمل إلا بالإيمان بالآخرة. فكل تلك القناعات وهذا الإيمان يجعلنا ندرك أن الموت حقًا نعمة. فالحمد لله المميت. والحمد لله الباعث. ورحمنا الله ﷻ وإياكم برحمته الواسعة في الدنيا والآخرة.