اسمك*
الخدمة*
الدولة*
المدينة*
عنوان بريدك الإلكتروني*
رقم هاتفك*
المبلغ $*
بقلم: ياسمين يوسف
16 أغسطس، 2020
هل سبق ووجدت نفسك تنفعل بشدة في موقف قد يبدو تافهًا وتعطيه أكبر من حجمه؟ أو هل سبق أن وجدت نفسك تنفعل غضبًا لموقف لا يستدعي الغضب أصلاً؛ كأن يقول لكِ ابنك أنه جائع فتستشيطين غضبًا؟ هل سبق وأن وجدت نفسك لا تنفعل في موقف متوقع فيه الانفعال ولكنك أعطيته أقل من حجمه؟ تابع معي هذا المقال إذًا والذي جمعت لك المادة العلمية فيه من كتاب “عنصر المقاومة”
The Resilience Factor; by Karen Reivich & Andrew Shatté
المعتقدات والأفكار التي تؤمن بها تؤدي إلى تفعيل مشاعر معينة.
هذا ما يسميه علماء النفس بثنائيات روابط الاعتقاد والتوابع
B-C Connections or Belief-Consequence Couplets
بمعنى أن لكل قناعة أو اعتقاد وإيمان بفكرة، هناك تابع أو نتيجة شعورية مرتبطة بها. هذه الروابط تساعدنا على فهم مشاعرنا وإدارتها. ولكن هناك مواقف تجد فيها مبالغة في ردة الفعل الشعورية مقارنةً بالفعل الذي قد يكون بسيطًا وقد نجد كسرًا لتلك الروابط كأن يستجيب الشخص بالإحراج بدلاً من الغضب عندما يحدث انتهاك لحقه. كأن يشعر شابٌ بالإحراج بدلاً من الغضب عندما يُمنع من دخول مكانٍ ما بسبب إعاقة لديه وهذا ما يُسمى بال B-C Disconnection . فما تفسير ذلك؟ التفسير يكمن فيما يسميه الباحثون Iceberg Beliefs أو معتقدات جبل الجليد.
يشير الباحثون في هذا الصدد إلى نوعين من المعتقدات أو الإيمان بفكرة. هناك المعتقدات السطحية التي يمكنك تعريفها بسهولة في أي موقف ticker-tape beliefs كأن تدرك أنك غاضب لأن أحدهم قد سكب القهوة على قميصك. وهناك المعتقدات الأعمق التي لا تطفو على سطح الوعي لديك ولا يمكنك اكتشافها بسهولة. هذه يسمونها “معتقدات جبل الجليد” أو iceberg beliefs فهي كجبل الجليد يختفي الجزء الأكبر منها تحت سطح الماء، أو اللاوعي في هذا السياق. وهي معتقدات كامنة عميقة يرجع تكوينها إلى مرحلة الطفولة وتدور حول نظرتك لنفسك ولمكانك في هذا العالم. فالشاب الذي شعر بالإحراج عندما مُنع من دخول مكان بسبب اعاقته، كان المفعّل لهذا الشعور لديه، هو قناعة كامنة بأن الإعاقة خطأ ارتكبه وأنه لا يستحق مكانة كبيرة في العالم. فجبل الجليد غير المرئي لديه هو كونه أقل من الآخرين وغير مستحق للتقدير بسبب الاعاقة التي هي خطأه وبالتالي هو يخجل منه. وهذه القناعة العميقة يمكن أن تكون قد ترسخت لديه في الصغر بسبب طريقة تعامل والديه مثلا مع اعاقته ومحاولتهم اخفائها أو اظهارهم للاحراج عندما سخر آخرون من الطفل في صغره أمامهم.
بينما لو كان تربى هذا الطفل على قناعات سليمة مثل أحقيته بالاحترام وأن الاعاقة ليست خطأه، كان سيشعر بالغضب عند منعه من دخول مكانٍ ما بسبب الإعاقة لأن هذا يُعد انتهاكًا لحقه في المعاملة الكريمة التي تحترمه. فالاستجابة الشعورية الصحيحة هنا هي الغضب لا الاحراج.
خطورة معتقدات جبل الجليد
تسبب معتقدات وقناعات جبل الجليد الكثير من المشكلات للشخص لأنها يمكن أن يتم تفعيلها تلقائيًا في أي وقت بشكل غير متوقع وتؤدي إلى ردود فعل عنيفة ومبالغ فيها أو ردود فعل شعورية غير مناسبة للموقف. كما أنها قد تؤدي لسيطرة حالات شعورية معينة على الشخص بدون أن يفهم هو لماذا سيطرت عليه تلك المشاعر ولماذا قادته لتلك التصرفات. لذلك من الضروري التعرف على تلك المشاعر واستحضارها لسطح اللاوعي فيما يُسمى بعملية استشعار أو اكتشاف جبل الجليد أو detecting the iceberg.
كيف يمكن استكشاف هذا الجبل الجليدي من المعتقدات واستدعائها لمساحة الوعي؟ يبدأ الأمر بتحديد القناعة السطحية والشعور المترتب عليها. مثلا في موقف الشاب ذي الاعاقة:
الحدث: تم منعي من المشاركة في المسابقة بسبب اعاقتي
القناعة: أنا مؤهل لخوض المسابقة واستعددت لها ومع ذلك تم منعي من حقي في المشاركة واخراجي من القاعة أمام زملائي.
الشعور الناتج أو التابع: الإحراج والخزي
يحتاج الشاب لأن يسأل نفسه:
إذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة تشير إلى نتيجة شعورية مبالغ فيها أو غير مناسبة للحدث والقناعة السطحية المرتبطة به، فهذا هو وقت محاولة استكشاف “جبل الجليد” وذلك بسؤال النفس الأسئلة التالية:
يسوق المؤلفان مثالاً رائعًا عن “جون”. جون في المعتاد هو من يقوم بالأعمال الاصلاحية في المنزل. يوم الأحد، طلبت منه زوجته تعليق بعض الستائر في غرفة المعيشة وهي تبدو كمهمة سهلة. تحمّس “جون” وأعدّ معداته وبدأ العمل بجدية. انهى “جون” حفر الحائط وتثبيت المسامير وتعليق الستائر وبمجرد نزوله من على السلّم وابتعاده قليلاً عن الستائر، اكتشف أن الناحية اليمنى أعلى بشكل واضح من الناحية اليسرى. تصادفت هذه اللحظة مع دخول زوجته للغرفة ونظرها للستائر المعلّقة. كان “جون” متأكدًا من أنها لاحظت الفارق في ارتفاع جانبي الستائر. ابتسمت الزوجة ابتسامة خفيفة وقالت “عمل جيد. أشكرك”. ولكن “جون” رأى تعبيرًا على وجهها جعله يدرك أنها لا تعني ما قالت.
جمع “جون” أدواته قائلاً لنفسه “أنه خطأي أني حاولت المساعدة بدلاً من الاسترخاء يوم عطلتي الأسبوعية وكان عليها أن تقدّر جهدي أكثر من ذلك”. أمضى “جون بقية اليوم في مرآب السيارة منشغل ببعض الأعمال اليدوية وتجنب الحديث مع زوجته وكان يشعر بالاحراج.
في هذا الموقف، الطريقة التي فسّر فيها “جون” مشاعره لا تتوافق مع الشعور الناتج. فلو كانت قناعته السطحية صادقة وحقيقية حول عدم امتنان الزوجة، لكان شعر بالغضب بدلاً من الاحراج. يفصّل المؤلفان كيف يمكن استخدام وسيلة استكشاف “جبل الجليد” في هذا الموقف.
يكون هذا عن طريق سؤال “جون” عن دوافعه الحقيقية ومساعدته على استكشافها كما في الحوار التالي أنقله لكم من كتاب “عنصر المقاومة”:
السؤال: ماذا كان معتقدك السطحي الذي أدى للمشاعر؟
الإجابة: أنا لا أحتاج لرد الفعل هذا من زوجتي. كان من الممكن أن أكون مسترخيًا يوم عطلتي الأسبوعية بدلاً من أن أقوم بما طلبته مني. على الأقل كان يمكنها أن تُظهر بعض الامتنان!
السؤال: وكيف كانت ردة فعلك؟
الإجابة: شعرت بالخزي والحزن وحاولت تجنّبها طوال اليوم.
السؤال: حسنًا، إذا وافقنا معك أن زوجتك لم تكن ممتنة لعملك، ما الذي يجعل هذا مزعجًا لك لهذا الحد؟
الإجابة: لأني مشغول ولكني خصّصت الوقت لتعليق الستائر من أجلها ولكنها أُصيبت بخيبة الأمل من النتائج.
السؤال: وإذا افترضنا أنها أُصيبت بخيبة الأمل، ما الذي يعنيه هذا بالنسبة لك؟
الإجابة: يعني أنها تؤمن أنني لا أستطيع القيام بعمل بسيط كمهمة تعليق الستائر.
السؤال: دعنا نفترض أنها تؤمن بذلك، ما هو أسوأ ما في هذا الأمر؟
الإجابة: أسوأ ما في هذا الأمر أن زوجتي لا تؤمن بقدراتي في العناية بالأمور داخل المنزل. يعني ذلك أنها لا تستطيع الاعتماد علي في الأمور التي ينبغي للرجل أن يعتني بها.
السؤال: لنفترض أنها لا تستطيع أن تثق بك في القيام بالأمور التي ينبغي عليك العناية بها. ما الذي يعنيه هذا لك؟
الإجابة: يعني هذا أنني لست الرجل الذي تربى على تلك القيم وأن الرجل الكفؤ يعتني بمنزله وتستطيع زوجته أن تثق به للعناية بتلك الأمور.
السؤال: وما هو أسوأ ما في هذا بالنسبة لك؟
الإجابة: أنه في أسرتي، كان هناك توقعات معينة من الرجال. أبي كان يفتخر بقدرته على عمل أي شىء داخل المنزل ويفتخر بعدم احتياجه أبدًا لتأجير خدمات شخص آخر لإصلاح الأعطال. وهو رباني أنا وإخوتي لنفعل نفس الشىء. فالرجل الحقيقي هو من يستطيع العناية بمنزله. أعتقد أن ذلك يعني أنني لست رجلاً حقيقيًا، وإلا كنت استطعت أن أقوم بتعليق الستائر بشكل أفضل!!
هنا يتضح لنا قناعات أو معتقدات جبل الجليد الكامنة في لاوعي “جون”. وهنا يدرك هو لماذا شعر بالخزي والاحراج بينما كانت مبرراته للموقف تشير إلى أنه كان من المفترض أن يشعر بالغضب حسب قناعاته السطحية في هذا الموقف. وهنا نفهم أيضًا لماذا كانت ردة فعله أكبر من الحدث البسيط نفسه.
في كل مرة تشعر بمشاعر أكبر من حجم الموقف أو مختلفة عمّا من المفترض أن تشعر به في هذا الموقف، من الهام أن تسأل نفسك عن القناعات التي تعتقد أنها أدّت إلى مشاعرك بعد الحدث. وبعدها تحاول أن تصل إلى أعماق وجذور المشكلة حقًا. يساعدك أيضًا على فهم “معتقدات جبل الجليد” أن تلاحظ ما المواقف التي تقوم “بتفعيل” نفس الشعور وحدّته لديك. ربما يساعدك هذا على أن تربط بين تلك المواقف وبين القناعات المشتركة المرتبطة بها.
الهدف النهائي هو ألا تسيطر عليك استجابات شعورية غير مفهومة وتقتادك إلى سلوكيات قد تندم عليها لاحقًا أو تُفسد عليك علاقاتك.
لاحظ أيضًا أن القناعة الكامنة لدى “جون” هي قناعة ليست سلبية. فجميل أن يستطيع الرجل أن يعتني بأسرته ومنزله. ولكن ربطه الأمر بقناعة مترسخة أخرى وهي أن من لا يستطيع أن يقوم بأعمال الإصلاح في المنزل، لا يستحق لقب الرجولة، هي القناعة الخاطئة.
من المبادرات الهامة في حياة أي شخص، من وجهة نظري، هو أن يخصّص وقتًا ذهنيًا لتصفية حسابات الماضي مع نفسه. أن يقوم بمراجعة قناعاته التي تسيطر عليه ويزور أعماق “جبال الجليد” بداخله في كل موقف يجد نفسه خرج عن طوره أو كانت له ردة فعل شعورية غير مناسبة للموقف. لا يمكن بناء السلام النفسي على سطح صفيح ساخن ملتهب أو فوق رماد أسفله جمرٌ مشتعل ولا على ركام مهترئة الأساس يمكن أن يميل البناء بسببها في أية لحظة. أفضل نسخة من نفسك هي نسخة متصالحة مع قناعاتها وأفكارها وقيمها الحاكمة وتدرك بوعي وجداني ما هي محركات مشاعرها. فأستعن بسم الله الباطن، وبه الواسع الأول ومارس مهارات التحليل لتفهم نفسك ظواهرها وبواطنها ولتنطلق بها بإذن الله نحو أفضل نسخة ممكنة.