فَتَرَبَّصُوا
بقلم: ياسمين يوسف
====
هل فكّرت في معنى كلمة “فَتَرَبَّصُوا” في الآية الكريمة من سورة التوبة:
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24)
فالآية تحمل معنى نتيجة مترتبة على فعل أن يكون أي شيء أحب إلى أحدنا من الله ﷻ، ورسوله ﷺ، وجهادٍ في سبيله. وقد تعتقد أن يكون العقاب أو العاقبة لتفضيل أي شيء على حب الله ﷻ، هو عقاب إلهي مدمّر أو صاعقة تحل من السماء. ولكن النتيجة والعاقبة لذلك هي “فَتَرَبَّصُوا”!! إن كل الأشياء والأشخاص التي تعددت في الآية كبديل يسبق الحب لله ﷻ، ولرسولهﷺ، وللجهاد في سبيله، هي جميعها أهم الأشياء والأشخاص في حياة أيٍ منا. وهي التي تحدد انتماءنا، وهي مصادر هويتنا وارتباطنا العاطفي. ومع ذلك تحذّرنا الآيات من أن يسبق حبُ أيٍ منها، حبَ مصدر الهوية الأساسي ومصدر الانتماء الحقيقي.
إن ما يحدث إذا سبق حبُ تلك الأشياء والأشخاص، حبَ الله ﷻ بكل ما يمثّله ذلك من التزام بأوامر وابتعاد عن نواهي وحب للقيم التي نتعلّمها من أسماء الله الحسنى، إن ما يحدث هو حالة من التربّص. هو حالة من الخوف والقلق الدائمين على كل تلك الأشياء والأشخاص! تلك الحالة من التربّص والخوف والقلق التي قد تدفع الإنسان للتخلي عن القيم وتجاهل الأوامر والنواهي من أجل ذلك الزوج، أو ذلك الإبن، أو ذلك الوطن، أو تلك التجارة. إنها حالة من التربص والقلق الدائمين من فقد كل تلك الأشياء والأشخاص. إنها حالة من اللهاث لإرضاء كل تلك المصادر الثانوية للهوية ونيل استحسانها وقبولها، حتى ولو على حساب هويتنا الأولى الأصلية وانتمائنا لله ﷻ. إنها تلك الحالة التي نحن عليها الآن… حالة من عدم الاستقرار العاطفي ومن اختلال السلام النفسي!
ومن الهام أن نذكر، أن انتماءنا لله ﷻ أولاً لا يعني التخلي عن الواجبات تجاه مصادر الهوية الأخرى ولا يعني عدم التعلّق بها. بل إن الاهتمام بمصدر انتمائنا الأصلي هو ما يجعلنا أفضل في كل دور نؤديه في الحياة. فحب الله ﷻ أكثر من حب الآباء والأمهات، هو ما يجعلك تتمسّك بإسم الله “البر” وبتأدية واجباتك تجاه والديك، حتى وإن كانا قد قصّرا في حقك أو كانا من المُسيئين. عندما تتعلّق بهم هم، تصبح معاملتك لهم مقرونة بطريقة معاملتهم لك، وقد تنكسر وتتحطم جراء ما يفعلانه بك. ولكن عندا يكون تعلقك بالبر سبحانه، سيكون إراضاؤه عن طريق بر والديك، هو محركك الأصلى. وهنا تبلغ الإخلاص بإذن الله. فما الإخلاص في بر والدين هما يحسنان إليك بالفعل؟!
وهذا الوطن الذي أساء إليك وقيّد حريتك، لن ينال منك سوى الحنق والغضب. ولكن إذا كان حبك لله ﷻ أكبر من حبك لوطنك، فلن يثنيك شيء عن محاولة إعادة بناء ذلك الوطن وتحسين الأوضاع فيه والدفاع عن حقوق كل مظلوم فيه ليعلو شأنه ويرتفع ذكره. وكيف لا وأنت عبد النافع، المعيد، الباعث، المعز، الرافع!
عندما تتعلّق بالقيم الربانية وتحبها أكثر من أي شيء، سيكون ذلك الاتساق مع هويتك الأصلية أهم إليك من كل ما يجري حولك. وستجاهد في سبيل تحقيق تلك القيم الجميلة رغم التحديات، بل وستصبح كل تحديات مصادر الهوية، هي اختبارات لك لإثبات جهادك في سبيل مصدر هويتك الأصلي. فإثبات الحب لله ﷻ ولهدي رسوله ﷺ، له محور الشعور بالحب، ومحور الاستعداد والسعي للجهاد في تحقيق الاتساق مع تلك الهوية الأصلية رغم دوافعك الداخلية وتحيزّك ومشاعرك، ورغم التحديات الخارجية وتأثيرها السلبي عليك.
وفي قصص الأنبياء عبرة. تأمل… سيدنا إبراهيم عليه السلام، مع أبيه… سيدنا نوح عليه السلام، مع ابنه… سيدنا لوط عليه السلام، مع زوجته… سيدنا محمد ﷺ مع عشيرته… سيدنا يوسف عليه السلام، الذي كان السجن “أحب” إليه مما يدعونه إليه!
تأمّل قصص الأنبياء الذين هاجروا وتركوا الديار والراحة والبلاد والعشيرة حمايةً لهويتهم… ليس هناك مبرر للتخلي عن الهوية الأصلية:
“إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا” (97) سورة النساء.
هذا هو السبيل إذًا للسلام الداخلي ولتجنّب حالة التربص التي نحياها! الحل هو أن تكون قيمنا المستوحاة من الإيمان بالله ﷻ، وبأسمائه الحسنى أحب إلينا من أي شيء آخر ونبذل في سبيلها كل جهد وإن تعارض مع أحد مصادر الهوية الثانوية. السبيل هو أن يكون حب رسول الله ﷺ وإتبّاع سنته، هو مصدر أساسي لتقويم أي اعوجاج في حياتنا. الحل هو الإيمان، وجهاد النفس وجهاد العوامل الخارجية من أجل تفعيل هذا الإيمان. هذا هو السبيل وإن شقّ علينا. ولكنه البديل الأفضل مقارنة بحالة التربص تلك… هو أفضل من الخوف والقلق الذي أرهق البشرية. هو أفضل من الرعب الذي نحيا به وينغّص علينا كل سعادة. ففي حبه سبحانه والجهاد في سبيله.. كل السلام من السلام ﷻ.