اسمك*
الخدمة*
الدولة*
المدينة*
عنوان بريدك الإلكتروني*
رقم هاتفك*
المبلغ $*
سؤال يراود الكثير بين حينٍ وآخر. دعني أرافقك في رحلة عقلية، وقلبية لاستكشاف بعض ملامح تلك الهوية التي تبحث عنها.
أنت العبد الفقير، السائح في هذه الدنيا في رحلة سيرك إلى الخالق ﷻ. أما رحلتك فهي رحلة ارتقاء في الخُلق ومقربة للرحمن ورفعة في المنازل والدرجات، متقلباً من حال إلى حال. فها أنت اليوم في لحظة ما مع حال نفسك المطمئنة، بعد طمأنينة طاعة أو نشوة عمل صالح أو لذة علم نافع، تغمرك السعادة متأملاً اسمه الرزاق الكريم وتحلق في السماء ولا ينقصك سوى مصافحة الملائكة. أما غداً، أو في المساء، أو حتى بعد ساعة وخلال سيرك وربما مرورا من نفس الطريق، تتعرض لمواقف الحياة المتكررة وتتعامل مع البشر وتصبر على أذاهم، فتجد نفسك في صراع وشتات مع نفسك الأمارة التي تجذبك إلى طبيعتك الترابية من جهة، لتأمرك وتسحبك إلى كل ما هو قبيح ورذيل. ومع وساوس شيطان تسلط عليك وتوعد قسما ليضلنك عن سواء الطريق من جهة أخرى. لكنك مؤمن بربك، تعرف أوامره ونواهيه، وتعرف حدودك وتسعى لما يرضيه سبحانه، فيذكرك فتدعوه “يا حي يا قيوم” وبرحمته تستغيث. حينها، تصرخ فيك نفس ثالثة، تذكرك به وتلقن: لا تفعل! لا تقدم! لا تذهب! فتنجيك تارة، وتنال منك الأخرى تارة.
تلك هي أحوالنا، وسط هذا الزحام وفي خضم هذا الصخب المنبثق بداخلنا. فنحن في صراع دائم بين هذين الصوتين في السير إلى أنفسنا المطمئنة، حيث السكينة والرضا والطمأنينة؛ السبيل، إلى سعادة مؤقتة يبحث عنها كل منا.
هذه تركيبتك ببساطة، وهذا أنت باختصار شديد. ولكنك لا زلت تبحث عن نفسك، من أنا؟ ولم أتيت إلى هنا؟ وما هو دوري في هذه الحياة؟
أسئلة أخرى تراودك وتظن أنك إن أجبتها ستجد الراحة من تعب هذه الدنيا! مخطئ أنت. فحقيقة الوجود المرة تخبرك أن لا راحة لك في هذه الدنيا، والواقع، هو واقع عملٍ وكدحٍ وجهاد:
“يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ” (84:6).
أما تلك النفس المطمئنة التي تبحث عنها؛ عنصرك الجوهري الذي يشكل حقيقتك الوجودية، هو عنصر من السماء، ذو طبيعة أخرى.. طبيعة غريبة عن هذه الأرض وعلاقتها بها، غربة تامة! فهي سجينة في هذا الكون الضيق مهما اتسع. فمهما سافرت، ومهما حاولت التحرر من كل القيود، أنت حبيس في هذا القفص الفسيح.
فليكن عملك مما يُنجيك من سخْطه، ويوجب لك رضاه، ولا يكن مما تستحق به عقابه، فتهلك.
ماذا عن لحظات السعادة التي أشعر بها؟ صحيح، تلك مشاعر حقيقة ولكنها لحيظات تتعرف فيها على معنى “الراحة”، فلولاها لما عرفت الفرق، ولما تذوقت طعم النعيم الأبدي!
فارتقِ بهذه الروح، واجتهدي يا نفس في عبوديتك التي أنت هنا اليوم لأجلها، لتصلي إلى ذاك النعيم المقيم في جنات وعدها للمتقين.
نعم، إنها رحلة ارتقاء، جوهرها تقوى ووعي وتذكُّر، وزادها أخلاق، ومنبعها قيم هذا الدين الحنيف. فها أنت في كل لحظة في هذه الرحلة، تتعرف على نفسك، على قيمة تجهلها، وخلق تفقده، وسلوك ينقصك، مستحضراً العليم بسرك وعلانيتك، البصير بظاهرك وخفاياك. ففي شباك نفسك الأمارة تدرك بأنك العبد الفقير، الذي خلق ليخطئ ولينوب ويستغفر. فتقف أمامها، وتتصدى لها وتجاهد معك طبيعتك اللوامة لترتقي بك من خصالك الطينية، ورذائل عالقة من صحبة سوء وطول طريق. لتكسبك فضائل سماوية، وتتوجك بلباس تقوى يزيدك حسناً ووقاراً وقربةً إلى ربك الغني الحليم. وما بين قبضٍ وبسطٍ، وزللٍ ونقصٍ تدرك ضعفك، وتنوب خَجِلاً إلى مغفرة ربٍ توابٍ رحيم.
الأمر واضح كما ترى: رحلة + أخلاق = ارتقاء. فأنت هنا لترتقي في كل لحظة، وفي كل يوم، وفي ثنايا كل تجربة تعيشها مع مخلوقات هذا الكون كافة، بخُلقٍ جديد، وفضيلةٍ تقربك من الرحمن، وتزيدك في الميزان، وترفعك مقاماً ودرجةً في أعالي الجنان.
هذه هي طبيعتنا جَمِيعاً على حد سواء. أما أنت، أنت وحدك، فقط ميزك الله الأحد ببصمة فريدة، وتركيبٍ جيني ليس لأحد غيرك، لتنفرد به بطبيعتك الروحية والجسدية لتعبده عبادة أخرى، خاصة بك. أما هذه الصورة من العبادة، لا تنحصر في دائرة العبادات المحضة ولكن تتسع لتشمل كافة أشكال الأعمال الصالحة وأنشطة الحياة الخالصة لوجهه الكريم، وكل أنواع الخير والكدح في سبيل إصلاح وعمران هذا الكون. فتتفنن أنت في مرضاته! ومن هذا المقام، تطلق صفارة البداية لهذا السباق، وهذا التنافس على الخيرات، في طريق منتهاه… رضوان الجنة والفردوس الأعلى.
ولصلاح هذا الكون، نحتاج إلى إصلاح أنفسنا أولاً. وفي صلاح الأنفس كلام يطول نختصره في كليمات نبدأها بقاعدة أولية تنص على أنّكِ أيتها النفس “جسد وروح”. أما طبيعتك الروحانية، تكلمنا عنها آنفاً. وتوصلنا أن غذاءها وإصلاحها في تعبدك وتحليك بمكارم هذا الدين وقيمه الفاضلة، وتخليك عن كل عيب ورذيلة ماقتة. فكل يوم تزيدها كرماً، ورحمةً، وعدلاً، وتنزع منها غيرةً، وشحاً وحسداً. أما جانبك الآخر، فهو مركبتك التي تسير بك في هذا الطريق إلى ربك، ولا تنفصل عن روحك. فصلاح هذا الجسد، فيه صلاحها واتزانها، وفساده فيه هلاكها وخسرانها. ولذلك هو أمانتك التي أستأمنك الله جل جلاله عليها لتعينك إلى الوصول إليه. وهو الذي يحوي أغلى ما تملك، وأسمى حقائق الوجود، “روحك” تلك النفخة من روح رب علي عظيم. ألا يكفينا استيعاب هذا رهبة لأن نحفظ هذه الأمانة العظيمة!
فاعلم أيها القارئ أن وقود هذه المركبة، هو الطيبات من الخيرات، فلا تزودها بغازٍ رخيص وتدخل عليها ما يفسدها. واعلم كذلك أن هذا الجسد غذاءه الحركة، في حين جبلت نفسك على الخمول والرغبة في القعود والركون. فخالف هواها، واطرد عنها كل مدعاة للكسل والوخم، وادخلها في مدار حركة ونشاط دائم. واقسط واعتدل ولاتحرمها شيئاً من الراحة فإن لجسدك “أمانتك” عليك حق. تحرى نشاطك وحركتك وفعاليتك، وما تدخل إلى جسمك، وتعلم وتفقه فيما ينفع جسدك ويديم عليك صحتك. إقرأ! وتعلم ما يعينك على معرفة ربك، وفهم دينك، ونفسك، وجسدك لتعلم من أنت. لعلك تعلم أنك أكرم مخلوق على وجه هذه الأرض. فأرتق بنفسك، جملها، حسنها، واكتشف مواهبك ،وظّفها، وعش في الأرض وعمرها.
وأخيراً، الزمها حدودها! فلا يغرنّك خير فعلته، أو منزلةٌ وصلت إليها إلا بكرمٍ وفضلٍ من رب عفو كريم. واعلم أن سعادتك هاهنا، هي سكينتك في القرب من القريب الذي خلقك فسواك فعدلك، وفي طمأنينة طاعتك وعبادتك بشتى صورها. أما السعادة والنعيم الحقيقي، هما حين ترى وجهه الكريم في عليين.
“فكفانا تيهاً وشططاً بِمَعَايِير خطت بقلم بشرٍ، وهلم عملاً وكدحاً بميزان حق وضعه خالقُ كونٍ”.