اسمك*
الخدمة*
الدولة*
المدينة*
عنوان بريدك الإلكتروني*
رقم هاتفك*
المبلغ $*
بقلم: ياسمين يوسف
بتاريخ: 25 أبريل 2020
خضم بحرٍ متلاطم الأمواج
منذ بداية أزمة الكورونا بكل تبعاتها وتفاصيلها، تعالت الكثير من الدعوات وتداعت من كل حدبٍ وصوب. بين متحمسٍ ذي همّة عالية يدعو لاغتنام الفرص، وتطوير الذات، والانطلاق بمشاريع جديدة، وقراءة الكثير من الكتب. وبين متعاطفٍ يرى ما أصاب الناس من تشتتٍ وشقاء فتجده يشجّع الناس على العناية بأنفسهم أثناء هذه الأزمة والترفق، والتمهّل، والاستجمام، والخلوة بالنفس.
ساعد على هذا، ذلك الزخم الكبير في المواد المُتاحة والفرص المعروضة. فهناك آلاف الكتب تمت اتاحتها الكترونيًا بشكلٍ مجاني، وبالطبع العديد من الدورات والبرامج التدريبية. وهناك الكثير من الخبراء يتحدثون لك عن كيفية بدء مشروعك الصغير ويحمسونك في اتجاه تفعيل تغييرٍ مهني في حياتك. شكّل هذا كله بحرًا متلاطم الأمواج بموارده الثرية، ومصادره الجديدة، وفرصه الممكنة، ودعواتٍ متعددة ومتصارعة في كل اتجاه. حقًا، ماذا ينبغي أن يفعل المرء إزاء هذا الواقع الجديد؟ هل يقفز في هذا البحر ويحاول اصطياد كل ما يستطيع أن يصل إليه من كنوز؟ أم يختلي بنفسه ويستجم ويجعل من الأزمة والعزلة الإجبارية فرصة للتقرّب إلى النفس والتصالح معها؟
دعوات ليست في محلها
لا أتفق مع الدعوات التي تشجّع على الاسترخاء والاستجمام وخصوصًا عندما تكون متساهلة مع النفس بقدرٍ كبير. كأن يتم التشجيع على الاستجابة لما تريده النفس في هذه الفترة. فإن وجد الشخص أن ما يوصله للسلام والتوازن النفسي هو لعب الألعاب الالكترونية أو النوم، والاسترخاء، فليكن. هذه الدعوات متعاطفة تمامًا مع الشخص وتضع في الحسبان كمّ الضغط النفسي الواقع عليه جراء الأزمة وما تفرضه بشكلٍ عام وجراء ما هو حادث في حياته من انقطاع الدخل أو ضيق المعيشة مع كثرة الالتزامات. وبالرغم من تفهمي الكامل لما نمر به جميعًا من ضغوطات، إلا أني لا أستطيع أن أتفق مع هذه الدعوات أو أشجّع عليها لأنها تقدّم لنا أربع إشكاليات أساسية.
1) طول مدة الأزمة
يمكنني أن أتفق مع دعوات الاسترخاء إذا كنا نتحدث عن فترة مؤقتة. ولكن أزمة الكورونا هي أزمة تطول في وقتها وستطول أكثر في أثرها بعد انحسارها. وقد نخرج جميعًا بعد الأزمة بتحدياتٍ أكبر من الأزمة نفسها وبالأخصّ على الصعيد المالي والاقتصادي. فربما يختلف سوق العمل كليًا ويحتاج بعضنا إلى تغيير توجهه المهني. وعندما تعود الأمور تدريجيًا إلى مجاريها، لن يستوي من قضى وقت الأزمة مسترخيًا يفعل ما تطلبه منه نفسه، وذلك الذي خطّط واستعد واكتسب المهارات والمعارف. هذا أول سبب يجعل من التوجه للاسترخاء وقت الأزمة، توجهًا غير حكيم.
2) الأزمات هي وقت تنمية المهارات
عندما ينعم الإنسان بالأمان، والرخاء، والحياة المستقرة، في الغالب هو لا يسعى للنمو ولا يفكّر في الابداع بإستثناء ثلة قليلة تجد تحفيزًا ذاتيًا على الإبداع وتتحلى بالفضول وحب الاستكشاف. كانت الحاجة على مرّ العصور هي أم الاختراع. وهذا حرفيًا بمعنى أن احتياج الإنسان للحصول على احتياجاته والتعامل مع الأزمات دفعه لإختراع الأدوات والآلات اللازمة ذلك. ومجازيًا أيضًا، حيث تدفع الأزمات النفسية الإنسان لتفعيل التغيير في واقعه لكي يخرج من المأزق النفسي الذي سببه التحدي أو الأزمة. أزمة الكورونا أزمة غير مسبوقة في حياة معظمنا وتقدّم لنا تحديات وفرصًا نادرة. فإذا لم تدفعنا للنمو والتطوّر وتغيير الحياة، ما الذي يمكن أن ينجح في تحفيزنا!! بالتأكيد ينبغي أن نتعامل معها بطريقة غير تقليدية لأنها أزمة غير تقليدية، وخاصة أنه لدينا الوقت المتاح حاليًا ولدينا عددًا كبيرًا من المصادر والموارد المتاحة، سواء من الحكومات أو من الجهات المستقلة كالجامعات والشركات. هذه الخلطة يندر أن تتكرر، وبالتأكيد هذا ليس وقت الاسترخاء والاستجمام.
3) كراهة الانقياد إلى النفس
النفس إذا تركتها تملي عليك ما تريد، في الغالب ستطلب الراحة والتكاسل. نحن مأمورون بتهذيب هذه النفس وتزكيتها. لذلك فليس من الحكمة أيضًا أن نثق في هذه النفس في أن تقودنا في وقت الأزمة. فهي سترى الضغوطات وتطلب منك تغطية، عينيك وسد أذنيك، وتجاهل الأزمة وتمضية الوقت حتى تمر. في الانقياد غير الواعي للنفس، هلاكٌ محقق.
4) المجتمع يحتاجك
حتى وإن كانت ليست لديك طموحات شخصية خاصة بك، فإن محيطك المباشر ومجتمعك يحتاجك الآن أكثر من أي وقتٍ مضى. هناك عائلات تحتاج إعانة. هناك كبار سن يحتاجون رعاية وعمل على احتياجاتهم. هناك مؤسسات مجتمعية تطلب متطوعين. هناك أشغال جديدة برزت في قطاع الإنتاج الطبي والإنتاج والتوزيع الغذائي ويحتاجون لعمالة فورية. هناك طلاب توقفت مدارسهم ويحتاجون شرح لمواد علمية وأدبية ربما تتقنها أنت. هناك جيران مكتئبون وصغار ضاقوا بالأوضاع ويحتاجون أفكار إبداعية من جيرانهم ربما للتسلية والأنشطة. هناك أكاذيب ومعلومات مغلوطة تُنشر وهناك من يهدمون الروح المعنوية ونحتاج من يوثق الحقائق وينشر روح الأمل والتفاؤل. فهذا بالتأكيد أيضًا ليس وقت الاسترخاء ولا الاستجمام ولكنه وقت النفير وتلبية النداء قدر استطاعتك وبأي إمكانات لديك مهما رأيتها صغيرة. فإذا كنت لم تعمل أي من هذه الأشياء ولم تندمج مجتمعيًا بأي شكل من الأشكال منذ بدء الأزمة، هذا لا يعني انتفاء الحاجة. هو فقط يعني أنك اخترت عدم الفاعلية.
هل أنت فاعل أم مستقبِل؟
يقول رسول الله ﷺ: “المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعيفِ وَفي كُلٍّ خَيرٌ”. هل أنت قوي أم ضعيف؟ هل تجد نفسك في هذه الأزمة طالبًا ومستقبلاً للدعم النفسي، واللوجستي، والمالي؟ أم تجد نفسك في موقع العطاء والقوة النفسية، والصحية، والمالية، والمعرفية والعلمية؟ وبالطبع لا أعني هنا من هم يعانون من ظروفٍ مفروضة عليهم كأمراض مزمنة أو إعاقات أو ظروف خارجة عن إرادتهم.
الأمر لا يتعلق فقط بأزمة الكورونا. انظر إلى “أنانية” المُدخّن مثلاً أو أنانية المدمن عافانا الله وإياكم وكل من نحب. هو يعرف أن ممارسته لتلك العادات غير الصحية، ستؤدي به إلى المرض وستستهلك موارده المالية، وتؤدي إلى عصبيته في حال عدم توافر السجائر أو المواد المخدّرة. هو يعلم أن هذا سيُرهق الآخرين في محيطه في المستقبل إذا اضطروا للعناية به صحيًا. كما يحرم أحبابه ويحرم المجتمع من عطائه إذا أصبح مريضًا أو غائبًا عن الوعي! بل وسيمثّل عبئًا على أسرته وعلى برامج الدولة التي تحاول انقاذ العابثين بصحتهم. كيف يُصبح هذا مقبولاً؟
قِس على ذلك كل استهتار آخر وكل تعذّر بالحرية الشخصية أو الضغوط. كأن يرفض أحدهم اتبّاع تعليمات الحجر الصحي فيتسبب في عدوى الأبرياء. أو أن يسرف أحدهم في الانفاق والدخول في صفقات تجارية غير مدروسة فيهدر ماله ويُهلك أسرته معه ويُصبح معتمدًا على الآخرين مجبِرًا لمن يحبونه على ايجاد حلولٍ له!! تخيّل أيضًا الطالب العابث الذي لا يبني المهارات ولا يأخذ مستقبله على محمل الجد. هو يهدم مستقبله، ويُرهق أسرته، ويعتمد على مجتمعه، ويحرم الحياة من مساهماته أيضًا.
نحتاج أن نفكر في كل عواقب أفعالنا. نحتاج أن نقرر هل سنقضي الحياة متلقين للخدمات، مجبرين للآخرين على العناية بنا، مقصرين في حق أنفسنا وحقوق من نحب، مثقلين على أجهزة الدولة؟ أم نحن نبني القوة بإذن الله ﷻ، ونكون مصدرًا لقوة الآخرين الذين هم ضعفاء لظروفٍ قاهرة ليس لها علاقة بقراراتهم الشخصية؟ على كل منا واجب بناء القوة الجسدية، والفكرية، والنفسية، والروحية، والمالية، والاجتماعية وفي كل المجالات. هل تود أن تخرج من الأزمة قويًا أم ضعيفًا؟ هذا هو وقت بناء القوة بإذن الله.
ماذا نحتاج إذًا؟
بناءً على ما تقدّم، أقترح أن نعمل على التالي في أثناء أزمة الكورونا:
• إدارة النفس وتهذيبها والوصول لأفضل نسخة ممكنة منها
• بناء القوة بجميع أشكالها قدر المُستطاع وتندرج “تنمية المهارات” تحت تلك المظلة
• الاستفادة من فرص متاحة قد لا تتكرر
• المشاركة المجتمعية الفاعلة حتى ولو في محيط الأسرة والجيران فقط
ولكن ماذا عن الضغوط؟
بالفعل نحن نمر بضغوطات عظيمة حيث تتكالب علينا الظروف العالمية وتأثيرها على الحياة الشخصية لكلٍ منا بتفاصيل متنوعة. وهناك العديد من الفرص المتاحة إلى حد التشبّع. فكيف نخرج بأفضل نتائج ممكنة بإذن الله؟ الحل يكمن لدي في اسمي الله الحق والعدل واسم الله الآخر. اسمي الله الحق والعدل يجعلانا نفكر في فكرة التوازن وتحديد الحقوق، وإعطاء كل ذي حقٍ حقه مع المحافظة على حق النفس. بينما من اسم الله الآخر، يحتاج كلٌ منا لمعرفة ما هي نظرته المستقبلية للحياة. ما هي أهدافه؟
الحقوق والتوازن
اغتنام الفرص وتنمية المهارات وقت الأزمات لا يعني ظلم النفس ولا الضغط عليها إلى حد الانفجار. لذلك فإن تحديد نواحي التوازن في حياتك هو أمرٌ في غاية الأهمية. يبدأ الأمر بتحديد الحقوق والمسؤوليات لديك. ويمتد لتحديد الأفعال التي يجب أن توازن بينها. فلله ﷻ عليك حقوق، ولنفسك حقوق، وللآخرين حقوق. يعني هذا أنه سيتحتم عليك تخصيص وقت للعبادة والشحن الروحي الوجداني. وسوف تحتاج لتوفية حق نفسك عليك من راحة، وزيادة علم، وتنمية مهارات، وترفيه متزن. ويعني هذا أداء مسؤوليات الآخرين عليك والعناية بهم والتفاعل معهم حسب الحاجة.
وكل هذه دوائر متداخلة. فأداء العبادات والتقرب من الله ﷻ يُسهم في تحقيق سلامك الداخلي. وتفاعلك مع الآخرين يدخل في نطاق عنايتك بنفسك أيضًا لأنك بحاجة للتفاعل الاجتماعي لتخرج من العزلة. كما أن تمنية المهارات يُحسّن أداءك لمسؤلياتك. وهكذا، تتشابك الدوائر.
الأهداف
عندما تحدد أهدافك المستقبلية وفي نفس الوقت تحدد وضعك الحالي من تخصصٍ، واهتمامات، ومهارات، وقدرات، وهوايات، تستطيع أن تُصقل أهدافك فيما يتناسب مع ما يجعلك تشعر بالمعنى في الحياة. وتستطيع أيضًا تحديد الفجوة بين وضعك الحالي والوضع الذي تود أن تكون عليه لتحقيق أهدافك بإذن الله. حينها تتحدد لديك بوضوح النواحي التي تود أن تنمو فيها. بالتالي، ينعكس ذلك على وضوح رؤيتك عند النظر للكمّ الهائل من المواد المتاحة لديك للقراءة، والتعلّم، والتدرّب. لن تهيم في كل وادٍ وراء مغريات البرامج المجانية، والفرص التي لن تتكرر. ستدرك تمامًا ما الذي يجب أن تنتقيه وتعطيه أولوية ضمن كل هذا. ولن تشعر بالحزن والخسارة لفقدان فرصة غير مرتبطة بأهدافك.
بعد تحديد المسؤوليات، والحقوق، والمهارات والقدرات الحالية، والاهتمامات، والاحتياجات، تتحدد الأهداف بناء على كل ذلك. وسوف تحتاج لتحقيق توازن بين:
• النمو الروحي والوجداني والتقرب إلى الله ﷻ.
• العناية بالجسد من ناحية النظام الغذائي، والنظافة الشخصية، وممارسة التمارين الرياضية.
• الاهتمام بالنمو العلمي، والمعرفي، والمهاراتي. يحدد هذا الكتب التي ستقرأها، والبرامج التي ستشاهدها، والدورات التي ستشترك بها.
• القيام بالمسؤوليات الاجتماعية وبناء العلاقات.
• الاهتمام بالجانب الترفيهي ويشمل ذلك التواصل الاجتماعي مع الأصدقاء وممارسة الهوايات التي تعطيك فرصة للاسترخاء وشحن الهمّة.
سوف ينتج عن ذلك النظام المتوازن بإذن الله تفوقًا في المجال المالي أيضًا عندما تضع سكينتك، وشخصيتك المتوازنة، ومهاراتك المُكتسبة، في خدمة مهنة تتفق مع أهدافك.
نعم، اغتنم الفرصة
بالطبع أشجعك على اغتنام الفرص بذكاء وبما يساعدك على تحقيق أهدافك. أيضًا احرص على التوازن في حياتك والذي يتضمن أوقات للعائلة والترفيه والأصدقاء والهوايات. إن هذه الأزمة نادرة واستثنائية. لا يمكن أبدًا أن نخرج منها صفر اليدين ونخرج كما خرج أهل الكهف نتساءل ما الذي وصل إليه العالم ونتصارع مع محاولات التأقلم مع الظروف الجديدة. نحتاج أن نأخذ أول خطوة نحو التغيير، وأن نسبق المعطيات بخطوات لنخرج من هذه الأزمة أقوياء بإذن الله القوي المتين.